أهمية العمل في الإسلام

العمل من أبرز الأمور التي أفرد لها الإسلام مساحة واسعة في التشريع على صعيد المعاملة، وعلى صعيد الأخلاق، وذلك لأن العمل بذاته أساس ودعامة مهمة في النظام الاقتصادي والبناء الاجتماعي، وركيزة فاعلة في التطوير الإنساني نحو الأفضل والأسمى في عالم الفرد والمجتمع.
والإسلام حين جعل له هذه الأهمية في الحياة الإنسانية وأنظمتها، فلأنه لا وسيلة سواه يتمكن الإنسان بها من تحقيق مبادئ الاستخلاف في الأرض وعمارتها، والاستفادة من كل الموارد الطبيعية المخزونة في الأرض، وبالتالي الوصول إلى العبادة المطلقة التي يتسامى بها الإنسان عند الله سبحانه، كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) (العبادة سبعون جزءًا، أفضلها طلب الحلال)([1]).
ولذلك تجد الحديث عن العمل يستأثر جانبًا كبيرًا من الأخبار الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، هذا فضلاً عن الآيات الكريمة الواردة في ذلك.
ويخلص الفقهاء السابقون رضوان الله عليهم والمتأخرون حفظهم الله، في فتاواهم التي تذكر في أبواب المعاملات في الفقه، من خلال التنبيه على ضرورة تعلّم أحكام التجارة،وعلى التعرف على أحكام البيع وغيره من الأحكام التي تتعلق بالعمل في العديد من أبواب الفقه مثل الإجارة والتجارة والسقاية والزراعة والسلف والمضاربة وبيع الصرف وغيرها، يخلصون إلى دور العمل والى ضرورة الإبداع وإظهار القدرة، وبذل الجهد والطاقة لاستغلال كل ما يحقّق للإنسان نظامه واستقراره وتوازنه في الحياة.
والعمل في مفهومه واضح جدًا، إنه الجهد والحركة التي بذلها الإنسان من أجل تحقيق وتأمين احتياجاته ومتطلباته على اختلافها، مادية ومعنوية، ونتيجة العمل والجهد هو الإنتاج.
وعندما يتفاعل الجهد البشري مع العناصر الأولية المتوفرة في كل المجالات يتحقق الإنتاج المناسب، فالعامل في البناء أو التجارة أو النجارة أو الفلاحة - مثلاً - يحقق إنتاجًا ماديًا، والعالم في الطب والهندسة يحقق خدمات معينة تسمى إنتاجًا أيضًا، والكاتب والعالم وغيرهم يحققون عطاءًا معينًا، يسمى إنتاجًا أيضًا، وهكذا.
إن المهم في الحياة الإنسانية أن تتوفّر لدى الإنسان المشاعر الحية لضرورة السعي والعمل - إذ هو الذي يجسّد شخصيته وإنسانيته كما تتجسد بمفاهيم أخرى - وأن لا يكون بعيدًا عن هذه المفاهيم وكسولاً خاملاً.
وقد أوجبت الشريعة المقدسة السعي على الإنسان في طلب الرزق وتأمين احتياجاته لكفاية نفسه وكفاية عياله ومتعلقيه، وجعلته مظهرًا من مظاهر العلاقة الإيمانية والارتباط والصلة بالله سبحانه، حيث يجسّد الإنسان بذلك التوكّل على الله والاعتماد عليه في كل شؤونه وأموره، لأن الله سبحانه هو المالك الحقيقي لكل ما في هذا الوجود، وبيده خزائن السماوات والأرض، والإنسان عاجز عن كل شيء إلا ما يسّره الله له وأوجده، ولذلك حين يسعى ويعمل ويتحرك في طلب المعاش، فإنه يتحرك ويسعى من خلال أمر الله سبحانه والتوكّل عليه.
وبهذا العامل الروحي والأخلاقي، استطاع الإسلام أن يحقّق للإنسان السعادة والخير والأمن والاستقرار، في حين فشلت المدنية والحضارة الحديثة والتطور الصناعي المذهل، والتكنولوجيا الفائقة أن تحقق شيئًا من ذلك كما هو مشاهد في كثير من الأمور التي تعاني منها البشرية، كالأخلاق، حيث ترى الفساد المطلق فيها، وعدم الاستقرار، حيث ترى الاضطراب والفوضى والاعتداءات تفوق العدّ والوصف،و كثير من نوازع الشرّ والفساد التي تتزايد في كل يوم وفي كل مكان ولم تستطع الحضارة أن توقف مدّه ولا أن تحصر سوءه.
إن الإسلام يتحرّك من خلال الواقع الإنساني والتكوين الإنساني، ولذلك أوجد له ما يتلاءم وطبيعته وظروفه واحتياجاته بشكل كامل، بل هو يتعامل معه من خلال هذا الواقع ومن خلال أحاسيسه ومشاعره، ولذلك كانت التشريعات التي يتخذها ويقرّرها علاجًا ناجعًا، وإذا كان البعض أو الكثير لا يؤمن بهذه المقولة لأن تجربته لم توصله إلى الواقع والحق الذي نقوله، فليس ذلك لأن الإسلام ليس على طبق الواقع، بل لأن الإسلام وتشريعاته لم توافق ما يريدون،فحكموا عليه بما يقولون.
وحين نستعرض ما ورد في القرآن والسنة والشريفة، نجد أن التأكيد والحثّ كما أشرنا يستأثر بالجانب الأكبر منها، ويؤكّد على أن العمل والسعي من الأسس المهمة للإنسان في حياته وفي جميع شؤونه الروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية.
أما ما ورد في القرآن الكريم:
فقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}([2]).
وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}([3]).
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}([4]).
وقال تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}([5]).
أما السنّة:
فقد ورد في الحديث: (ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنيا)([6]).
وورد أيضًا: (يصبح المؤمن ويمسي على ثكل، خير له من أن يصبح أو يمسي على حرب، فنعوذ بالله من الحرب)([7]).
وفي الحديث: (لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكفّ به وجهه ويقضي به دينه ويصل به رحمه) ([8]).
ولأهمية العمل والسعي موضوعيته، فالأخبار تصفه بأنه عبادة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العبادة سبعون جزءًا، أفضلها طلب الحلال)، وقال أبو الحسن موسى (عليه السلام): (من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله)([9])، وتمضى السنّة أيضًا في الحث والتأكيد على العمل والسعي، فتجعلهما من أسباب ووسائل العزّة والكرامة للإنسان، وذلك لأن الإنسان الذي يسعى من أجل تحصيل معاشه وتأمين احتياجاته ويعمل جاهدًا للاستغناء بعمله وكدّه وجهده عن أي طلب وسؤال من الناس يكون عزيزًا كريمًا على الناس وينظر إليه بنظرة الإكبار والتقدير والاحترام، ورد في الحديث أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال لمولى له: (يا عبد الله احفظ عزّك؟، قال: ما عزّي جعلت فداك؟ قال: غدوك إلى سوقك وإكرامك نفسك)([10]).
وإذا ما استعرضنا بقية الأخبار التي تؤكد ضرورة العمل والسعي، نجد بأن التشريع الإسلامي لا يظهر أهمية وقيمة العمل في الحياة الإنسانية فقط، وإنما يجسّد الاعتبارات والطاقات والإمكانات عند الإنسان، ويعطيها الفاعلية وأنها تنمو وتزيد بالعمل، ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التجارة تزيد في العقل)([11])، وقال (عليه السلام): (ترك التجارة ينقص العقل)([12]).
وفي حديث عن معاذ بن كثير بياع الأكيسة، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني قد هممت أن أدع السوق وفي يدي شيء، فقال (عليه السلام): إذًا يسقط رأيك، ولا يستعان بك على شيء)([13])..

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire